توفيق الصباغ-Tawfek El Sabbagh

1892 - 1964

للجملة الموسيقية العربية طابع خاص تظهر في التقاسيم على الآلات الموسيقية و يظهر معها طابع العازف و ثورة انفعالاته النفسانية و براعة تركيبه للنغمات بعضها مع بعض و حسن التخلص من نغمة للانتقال إلى غيرها إن هذه الأوصاف بكمالها قد حاز عليها الأستاذ توفيق الصباغ في عزفه على كمانه لقد كان صاحب مدرسة لا يقلد و لا يجارى لم تكن تقاسيم الأستاذ الصباغ من النوع المألوف على الأسماع
إن عزفه كان يحمل طابع صاحبه لقد كان هذا العزف الترجمان الحقيقي لنفسه المعذبة و المتألمة و مهما أراد أن يخفي من آلامه و عذابه فقد كان هذا الألم و العذاب واضحا معبرا في موسيقاه التي ألفها و في تقاسيمه التي يعزفها و في الحقيقة أن هذا الفنان كان نسيجا خاصا مستقلا في طبعه و عاداته
ولد توفيق الصباغ في حلب في شهر أيار عام 1892 و كان يملك صوتا جميلا أهله فيما بعد لدخول مدرسة الروم الكاثوليك بصفته مرتلا في جوقة الكنيسة و تدرج في التعلم حتى بلغ الرشد و كان خلال دراسته يتمرن على آلة الكمان التي كان شديد الولع بها و كان أبوه ينهاه عنها و يضربه إذا عزف أو تمرن عليها
ترك الصباغ المدرسة ليلتحق مستخدما في بعض المحلات التجارية و كان يتقن اللغة الفرنسية و مسك الدفاتر فنعمت حاله و تحسنت و لكن نفسه المتطلعة إلى الانعتاق من اسار الاستخدام نزعت به إلى الحرية و الانطلاق فترك العمل الذي وفر له سبل العيش و شد الرحال إلى مصر و كان حينئذ في الثامنة عشرة من عمره و فيها دأب على إجادة العزف على الكمان و التمرن عليها مدة ثلاث سنوات حتى تمكن من الفوز على معظم العازفين المرموقين حينذاك فوزا باهرا وتبسمت له الدنيا بما فيها لا و لكن هيهات أن تصفو الدنيا لأحد يوما دون أن تكدر صفوه أياما فما أن فاز بهذه المنزلة حتى أعلنت الحرب العالمية الأولى عام 1914 و بطل ما كان الناس يألفونه من الترف و البذخ و إقامة الأفراح في الليالي الملاح
لقد أصبح الشاب غريبا و عبست له الدنيا فلا هو استطاع أن يعود إلى الاشتغال في الحال التجارية و لا استطاع الفن الذي وهب نفسه له أن يهيئ نفسه له سبل العيش عيش الكفاف على الأقل الأمر الذي أفقده الأمل من الحياة و حمله على الإقدام على الانتحار و داهمه المرض و ساءت حالته و انقطعت المخابرات بينه و بين أهله و بعد أن شفي من مرضه أخذ يفكر بالتطوع في الجيش الإنكليزي
و في شهر آذار من عام 1915 استدعاه خاله إلى بلدة الفهود في السودان فذهب إليها و عمل في الميدان التجاري و كان يؤانس غربته كمانه التي كانت تصاحبه في أسفاره و لكن خاله كان يثنيه عن العزف عليها و هي سلواه الوحيدة التي كان يلجأ إليها في وحدته و غربته و قسوة الأيام عليه ثم افتتح دكانا برأسمال قليل فتحسنت حاله بعض الشيء و ربح و استفاد من عمله التجاري
و في أواخر عام 1916 هجر السودان و عاد إلى مصر و لبث فيها بعض الوقت مسرورا ينفق مما جناه في السودان و كانت له أفكار غريبة إذ بدأ يتشاءم من اسمه الياس فبدله إلى توفيق حبا بالتوفيق و النجاح و اتخذ سبيله إلى العمل في الفن و الموسيقى و سار به الحال في طريق الرفاهية و في ذلك يقول ربنا يديم علي النعمة و هي الستر و لا يحيجني إلى أحد و يطمني على أهلي إنه هو السميع المجيب و بعد أن نجده يوما يحمد الله على ما انعم عليه نجده بعد أيام يعود إلى الشكوى فيقول أنا شقي تعيس كتب لي العذاب و رزقي محدود جدا مهما سعيت و لو سافرت إلى آخر الدنيا و في شهر آب من عام 1917 يعاوده التشاؤم و يشكو التعاسة بسبب أمر الحكومة بإطفاء الأنوار بسبب الحرب فبدأ يتمثل له شبح الفقر و يتمنى لو أنه بقي في السودان و في عام 1918 بدأ يشكو من تأخر صحته و قلة العمل ثم يعاوده الهدوء و تحن نفسه إلى الزواج و لكن قلة المال كانت المانع لهذا المشروع
و حينما وردته الأنباء بسقوط دمشق و حلب عام 1919 في الحرب العالمية الأولى و فيها أهله وهم في عسر و عليه أن يساعدهم بدأ يشعر أ ن عذابه الماضي لم يعد يذكر بالنسبة لما سيتوقعه في المستقبل إن أهله ينتظرون مساعدته و هو في حالة يائسة لوقوف العمل و انقطاع أسباب الرزق بسبب نشوب الثورة الوطنية العارمة و قيام المظاهرات في جميع أنحاء القطر المصري و لكن أزمته هذه لم تلبث أن انفجرت بذهابه للعمل في الإسكندرية حيث اشتغل بها طوال شهر رمضان من تلك السنة و قبض أجرا وفيرا على عمله و هنا أرسل إلى أهله شيئا من المال ليسدوا به حاجتهم و في عام 1921 أصابته أزمة جديدة سببها أن الأوراق المالية التي اشتراها مما استطاع توفيره سقطت أسعارها فعاد يفكر باليأس و الانتحار
و انتهت جميع هذه الأزمات و انفرجت أساريره في أوائل عام 1922 حيث عاد إلى مسقط رأسه حلب و أصبح بين أهله و ذويه مطمئن البال و فيها بدأ يشتغل في بعض الملاهي حيث اكتسب فيها شهرة كبيرة و لقب بسلطان الكمان
هذه هي المرحلة الأولى من حياته كما وردت في مذكراته و في عام 1923 تزوج توفيق من امرأة جميلة و رزق منها طفلا سماه نديم فملأ السرور قلبه و ملك عليه حواسه و لكن هي الأيام لا تعطي مرادا فقد نقلت الزوجة إلى المستشفى بعد ولادتها و في غضون ثلاثة أشهر فارقت الزوجة الحياة فجن جنونه افتقد كل ثقة بنفسه و اقدم على الانتحار فحبس نفسه في غرفته و قطع شريانه بقطعة زجاج حيث نزف دمه و لكنه أسعف في الحال و عندما شفي من مرضه أصابته مصيبة جديدة هدت كيانه فقد توفي ابنه نديم فكانت النكبة قاصمة فهام على وجهه في البراري و بين القبور يناجي زوجته وولده
و بعد فترة عاوده الهدوء و سافر إلى دمشق حيث توظف في مهنة التدريس في وزارة المعارف ثم سافر إلى بيروت حيث سجل عدة اسطوانات فتحسنت أحواله المادية ثم عاد إلى حلب عام 1926 ليفتح مدرسة لتعليم الموسيقى فأخفق وعند ذلك عاد إلى بيروت وهناك اشتغل على أحد المسارح ولكنه لم يصب النجاح المطلوب فعاد إلى مهنة التعليم في دمشق وفي عام 1929 دأب على التمرين على الكمان اثني عشر ساعة يوميا توصل بعد هذا الجهد إلى درجات عالية من الإجادة ة والبراعة وفي رحلة إلى بيروت لإقامة حفلة فيها اصطدمت سيارته بسيارة أخرى مسرعة فقتل أحد رفاقه وأصيب هو بجراح بالغة في رأسه فنقل إلى المستشفى لمعالجته وهو في حالة غيبوبة ولم يكد يفيق من غيبوبته حتى راح يسأل عن كمانه بلهفة ظاهرة وشوق زائد وكتب عدة كتب في الموسيقى النظرية والعملية ونشر الكثير من مؤلفاته فكان أول كتاب له تعلم الفنون ثم المجموعة الموسيقية وقد حوت مؤلفاته من بشارف وسماعيات مع المؤلفات الموسيقية التركية التي كانت رائجة آنذاك ولها جماعة لا يستهان بعددها من المستمعين وفي عام 1951 صدر له كتاب الدليل العام في أطرب الأنغام ثم أتبعه برسالة بحث في النغمات وتواترها الفيزيائي ومن مزايا عزفه أن كان يصور الأنغام من غير أماكنها ببراعة فائقة من غير أن يخدش الأسماع
اشترك في تمثيل سوريا في المؤتمر الموسيقي الذي عقد في القاهرة عام1932 وكان له آراء وجولات ومعزوفات لفتت الأنظار الرسمية والشعبية نحوه واشترك في تأسيس الإذاعة السورية بحلب وظل موظفا فيها حتى وافاه الأجل المحتوم في 16 كانون الأول عام 1964 مخلفا آثاره الفنية النفيسة واجمل الذكرى