محمد القصبجي-Mohamed el Kasabji

1898-1966

حياته
محمد القصبجي علم بارز من أعلام الموسيقى والتلحين وعواد زريابي وصل بألحانه إلى قمة الإبداع وعندما التقت عبقريته بأجمل الأصوات وأبدع الحناجر بأم كلثوم سيدة الغناء العربي اقترن الإسمان معا وحلقا في سماء المجد الفني وفي أعلى ذروته ولد هذا الفنان في مدينة القاهرة عام 1898 من أبوين محافظين وما أن ترعرعت طفولته حتى أرسله أبوه إلى الكتاب ليحفظ القرآن الكريم حسب العادات المألوفة آنذاك وبعد أن أتم هذه المرحلة الأولية من الدراسة وكان قد بلغ التاسعة من عمره أرسله أبوه إلى الأزهر ليثقفه في العلوم والمنطق والفقه واللغة العربية والتوحيد وأخيرا انتسب إلى دار المعلمين وظل فيها حتى تخرج منها
ولكن كيف يستطيع محمد القصبجي التنازل عن هوايته الأولى الموسيقية ويلتحق بمهنة التدريس وهي التي أخذت عليه سائر حواسه ومشاعره وتصدرت في مخيلته ونفسه وروحه ولا سيما وقد نشأ في بيئة موسيقية فنية إذ كان والده يدرس آلة العود ويلحن للمطربين لقد تأصلت هذه الهواية في نفسه من الثامنة من عمره وفي التاسعة اخترع محمد القصبجي عودا صغيرا بسيطا وعزف عليها ألحانا بدائية أشبع بها تلك الهواية على أن الوالد الذي أراد لابنه السير في مسلك العلم والدين قد تلاشى أمام رغبة ولده الملحة في تعلم الموسيقى بل صار يمرنه على العزف على العود خلال أوقات فراغه لتكون له هواية جميلة تساعده على الدراسة والبحث وكانت الموسيقى لمحمد القصبجي إلى جانب الدراسة حلا وسطا لرأي والده ومخرجا صحيحا لهذه الأزمة العائلية وبعد أن تخرج القصبجي من دار المعلمين زاول مهنة التدريس مدة ثلاث سنوات أعماله
من هنا بدأت نقطة التحول في حياته كفنان فترك مهنة التدريس وانزوى يعمل للفن وبعد أن تمكن من أصول العزف والتلحين إلى جانب ثقافته العامة التي كانت أكثر من جيدة لحن أول أغنية من نظمه وتلحينه وكان مطلعها ما ليش مليك في القلب غيرك وطلبت منه شركة اسطونات بيضافون أن يتنازل عن هذا اللحن للمطرب مراد والد ليلى مراد ليسجله على اسطواناتها قال القصبجي يوم ذاك قال لقد أحسست بأنني بدأت رحلة المستقبل المليْ بالأماني الكثيرة والألحان الساحرة فصرت أقرأ الأشعار وأكتب الأزجال وألحنها ولم يكن يضيرني أن تظل ألحاني الأولى في زوايا النسيان وفعلا دأب على النظم والتلحين فكتب ولحن هاتين الأغنيتين يا قلبي ليه سرك تذيعه للعيون و الحب له في الناس أحكام هذا إلى جانب أغنيته الأولى وشعرت آنذاك شركات الاسطوانات بعبقرية جديدة ظهرت إلى الوجود فتهافتت على ألحانه لشرائها وتسجيلها وكانت آنذاك مطربة مصر الأولى أو مطربة العالم العربي السيدة منيرة المهدية التي كانت تعرف فيما مضى باسم زكية حسن والتي أكتشفها أحد أفراد الأسرة الأباظية ومهد لها سبيل العمل في المسرح وقد تعرفت على محمد القصبجي فطلبت منه أن يلحن لها لحنا جديدا فلحن لها بعض الأغاني والأوبريتات التي أخذت مكانها في المسرح كما أقبل عليه المطربون المشهورون أمثال زكي مراد والشيخ سيد الصفتي وصالح عبد الحي وفي عام 1922 طلبت إليه شركة بيضافون أن يلحن لها الأشعار الوطنية التي كان ينظمها يونس القاضي ويصف بها الشعور الوطني ضد الاستعمار فلحن أغنيات عديدة أثارت دويا كبيرا في الأوساط السياسية والفنية
ويعتبر محمد القصبجي أهم حادثة في تاريخ حياته هي يوم تعرفه بالسيدة أم كلثوم لقد كان هذا التعارف بواسطة شركة أوديون التي سبق لها أن اشترت منه أغنية قال حلف ما يكلمنيش فطلبت منه هذه الشركة أن يسجل هذه الأغنية بصوت أم كلثوم فتوجه القصبجي إلى دارها وراح يعلمها اللحن وعندما أتمت حفظه قالت للقصبجي أنت الكنز اللي لازم أحافظ عليه وحنتعاون مع بعض على طول بإذن الله ومنها بدأت بين أم كلثوم ومحمد القصبجي صداقة العمر وبدأ يغذيها بألحانه وكانت أول أغنية بعد هذه الصداقة أعطاها لأم كلثوم هي أن حالي في هواها عجيب من مقام العجم وكانت هذه الأغنية هي الانطلاقة الأولى بالنسبة لألحان أم كلثوم الأولى في حياة القصبجي الفنية وبلغ مجموع ما لحنه من الأغاني لأم كلثوم 140 أغنية كان آخرها بالنسبة لألحان أم كلثوم رق الحبيب ولم تأخذ أم كلثوم من محمد القصبجي وحده لحنا بل بدأت تنوع ألحانها فتأخذ من رياض السنباطي ومن زكريا أحمد وبليغ حمدي وغيرهم الأمر الذي دفع القصبجي أن يقول من بعد تلحينه لأغنية رق الحبيب بدأت شمسي في المغيب فكدت أسير إلى زوال
يعتبر محمد القصبجي من الملحنين المكثرين فقد بلغ مجموع ما لحنه في حياته من روائع الألحان 1265 أغنية كانت أكثرها على كل لسان وفي كل قلب لقد تغنت بألحانه أكابر المطربات والمطربين أمثال منيرة المهدية وأم كلثوم وأسمهان وصالح عبد الحي والشيخ سيد الصفتي ومن أشهر ألحانه التي شاعت كثيرا أغنية يا بهجة العيد السعيد ومدام تحب تنكر ليه ورق الحبيب لأم كلثوم وليت للبراق عينا لأسمهان وغيرها ولا شك أن أغاني أم كلثوم جميعها شائعة ولكن هذه الألحان الأربعة قد تناقلتها الألسن والحناجر كثيرا لخفتها ورشاقتها وسهولة أدائها لم يقتبس القصبجي من الموسيقى الغربية ولم يقلد أحدا في ألحانه انه نسيج خاص وصاحب مدرسة مستقلة عن سواه انه كان عقيما لم ينجب أولادا ولكنه كان يعتبر ألحانه بمثابة أولاده لأنها ستخلده من بعده ولم تقتصر ألحانه على الأغاني بل لحن أربعة أوبرات هي المظلومة وحرم المفتش و كيد النساء وحياة النفوس كما لحن العديد من الأفلام السينمائية وفي مقدمتها أفلام أم كلثوم وليلى مراد وإبراهيم حمودة وعبد الغني السيد ونور الهدى وصباح وهدى سلطان وكانت سائر هذه الألحان من المستوى الرفيع ومن مدرسة القصبجي الموسيقية الحديثة الراقية
لقد بدأت مدرسة القصبجي أول أعمالها عام 1927 يوم كوّن القصبجي أول تخت ضم إليه عازف القانون محمد العقاد وأمير الكمان سامي الشوا واشترك مع هؤلاء الثلاثة الشاعر أحمد رامي في تقديم روائع شعره ليصاغ منها ألحنا تهز القلوب والأسماع والمشاعر إن هذا الفنان الكبير والعبقري المبدع وصاحب المدرسة الموسيقية الرائعة كان يقول عشاقي في الدنيا ثلاث ثومة أي أم كلثوم وعودي وألحاني ولذا كان يقف أمام أم كلثوم كرقم 6 منحنيا ويتهافت على العزف في حفلاتها الغنائية حتى ولو كان في أسوأ الحالات من الإرهاق والتعب وكان إذا نادته أم كلثوم يسرع نحوها ملبيا أمرك ست الهانم إن إعجابه بها قد وصل حد العبادة بعد الله ومثل القصبجي مع أم كلثوم كمثل محمد عثمان مع عبده الحمولي الذي كان معجبا به رغم عنفوانه الشديد كان يقول عنه الأفندي بتاعنا وانتهت حياة القصبجي في الربع الأول من عام 1966 ودفن في القاهرة مخلفا أبدع الألحان وأروعها ومدرسته الموسيقية التي اتسمت بطابعه وأخلاقه ومزاجه